كم هو
مؤلم أن يعيش المرء غريبا شريدا طريدا في وطنه..
ذلك هو الواقع المرُّ الذي يعيشه الآلاف من حملة
الشهادات في هذا الوطن الحبيب بعد أن قضوا زهرة شبابهم في طلب العلم، فسهروا
الليالي وكابدوا الفقر والعري في مؤسسات تعليمة لا يشجع واقعها بأي حال من الأحوال
على مواصلة الطلب، ثم سافروا شرقا وغربا باحثين عن أفضل التخصصات والامتيازات
العلمية آملين أن تُخرجَهم شهاداتهم من عذابات الفقر والتهميش.
إلا أن تلك الأحلام الجميلة والآمال
الطموحة سرعان ما اصطدمت بجدار الواقع الوطني المذل..
واقع تتربع فيه مفردات الفساد على
كل مفصل من مفاصل دولة تعيش منذ خمسين عاما حالة ولادة قيصرية لم يكتب لها النجاح
بعد.
فالمحسوبية والزبونية والقبلية
والجهوية وغيرها مفردات تكاد أن تصير لغة التهجي لكل طفل يناغي الكلام في هذا
البلد.
إذن أدرك الخريجون بادي الرأي أن
المرء مهما حصّل من الشهادات وتقديرات الامتياز فإنه سيظل يتسكع على حافة الشارع
ما لم تكن له يد قوية في "المخزن".
هذا الواقع حدا بالكثير من الخريجين
إلى الانخراط في أعمال مختلفة بعيدة كل البعد عن مجال تخصصهم؛ ليتواروا بذلك عن
أعين مجتمع لا يرحم ولا يحترم إلا صاحب الزي الغالي والسيارة الفاخرة، ولو كان في أعلى
درجات الجهل والحمق؛ وليحصوا من خلال تلك الأعمال على لقمة عيش تُقيم أودهم وهم
يصارعون من أجل البقاء.
فلن تخطئ عيناك وأنت تعيش الواقع مئات
من حاملي "المتريز" "والماجستير" "والماستر"
والباحثين في " سلك الدكتوراه" وغيرهم من أصحاب الشهادات وقد تحولوا إلى
بائعين للرصيد في شوارع العاصمة، أو باعة متجولين في النقطة الساخنة، أو عارضين
لملابس الأطفال في سوق العاصمة، وأحسنهم حظا من وجد له وظيفة بائع في أحد المتاجر، أو وظيفة سائق
سيارة أجرة، أو محصلا في "باصات عزيز" للنقل العمومي.
ولن يغيب عن سمعك الحديث عن العشرات
من حاملي الشهادات الذين ركبوا مخاطر الهجرة إلى إفريقيا وغيرها من دول العالم
هربا من حالهم المزري.
ولم يكن تسجيل حالات انتحار في الفترة الأخيرة – للأسف- إلا نتيجة من نتائج
اليأس الذي يعيشه الخريجون.
إن هذا الواقع ليس وليد اللحظة
الراهنة بل يرجع إلى عدة عقود مضت، شهدت سياسات فاشلة أفرزت الوضع الحالي.
إلا أن الأمر الذي أذهل
حاملي الشهادات في الفترة الأخيرة هو تلك الحرب الشعواء التي يشنها النظام الحالي
على حملة الشهادات عموما، وعلى أصحاب الآداب خصوصا، دون أن يصنع شيئا لأصحاب
الشهادات العلمية العاطلين بالعشرات.
حيث لم يفوت رئيس
الجمهورية محمد ولد عبد العزيز فرصة يطل فيها على الشعب إلا وتهجم على حملة
الشهادات الأدبية واصفا إياهم بأوصاف عديدة تحط من قدرهم وتحملهم مسؤولية تخلف
البلد عن ركب الحضارة.
وقد سالت أقلام كثيرة في الدفاع عن
أصحاب الآداب والرد على خطابات الرئيس.
غير أني لم أتفاجأ من
مواقف الرئيس تلك فهو يقدم نفسه على أنه أفضل وأكمل شخص في هذا البلد فمن الطبيعي
أن يقزِّم كل الأشياء التي لا تمتلكها شخصيته الفريدة، والشهادات على رأس تلك
الأشياء طبعا، فقد فهم سيادته بفكره الثاقب أن إعطاء قيمة لأصحاب الشهادات يحط من
قيمته كقائد فرد.
وتلك " شنشنة
أعرفها من أخزم" فلعل أهم حكمة تعلمها من تتلمذه على ملك ملوك إفريقيا هي:
" قزِّم كل ما لا تملك لتظل المثل الأعلى".
إن استمرار الظلم الواقع على حملة
الشهادات أمر لا يمكن قبوله، ولا يمكنهم الصبر عليه وهم يرون عمليات التوظيف التي
تتم في الظلام وتحت الطاولة.
لا يقبل ولا يعقل أن
تظل زمرة قليلة متحكمة في مصير الآلاف من الخريجين وذويهم بحشرهم في زاوية الفقر
والتهميش، وأبناء تلك الزمرة يحظون بأفضل أنواع التعليم – إن شاءوا – ويتقلبون في
مختلف الوظائف بدون مؤهل علمي، ثم لا يجد الخريجون وذووهم إلا غبار سياراتهم
الصاخبة وهم يستعرضون قواهم في شوارع نواكشوط الضيقة.
وأخيرا..
على السياسيين والقوى
الحية وكل الحريصين على هذا البلد الساعين للحفاظ على وحدته وأمنه أن يجعلوا قضية
التوظيف قضيتهم الأولى، فبدون الاهتمام بشريحة الخريجين لا يمكن أن نشهد أي نوع من
أنواع التغيير، وبدون وضع حد لمشكلتهم لا وجود للوحدة ولا للأمن والاستقرار.
إن دام هذا ولم يحدث له غيَرٌ*** لم يبك ميت ولم يفرح بمولود.
سيدي ولد أعمر
Sidiamar12@gmail.com
0 التعليقات: